رحلة البحث عن آثار حضارة المايا في أمريكا الوسطى Maya

كيف أمكن لاثنين من المغامرين اكتشاف آثار حضارة المايا خلال رحلة إلى الماضي البعيد الموغل في القِدَم؟!، وبفضلهما تم التأكيد على أن حضارة المايا لن تختفي مرة أخرى في غياهب النسيان التاريخي.
آثار حضارة المايا

بعد العثور على آثار حضارة المايا تم التعرف على كل ما يخص تلك الحضارة والتي تقع في وسط أمريكا ويمتد تاريخها إلى 3000 عام، وأصبحت محط السائحين من مختلف العالم.
وقبلة للراغبين في دراسة الشعوب القديمة لإكتشاف عاداتهم وتقاليدهم وعباداتهم وحياتهم الخاصة ومدى تقدمهم أو العكس، ولكن كيف تم اكتشاف تلك الآثار التي دلت على حضارة المايا؟ ابقوا معنا!!

مغامرة البحث عن آثار حضارة المايا في وسط أمريكا

منذ أن علم الناس أن الأرض تحوي بداخلها كنوز من حضارات قديمة طواها النسيان، ومنذ أن بزغ علم الآثار، فإن الكثير من الناس قد أصبح شغلهم الشاغل هو البحث عن الكنوز وتحقيق الثراء.
لذا ظهر الكثير من المغامرين الذين تحملوا عناء السفر والتنقل بل والمرض احياناً إما من أجل المغامرة والشغف بالحضارات القديمة أو من أجل البحث عن الكنوز.

مَن الذي اكتشف آثار حضارة المايا

قبل أن نخوض في تفاصيل الرحلة أو المغامرة تعالوا نعطى نبذة عن كلا من ستفينس وصديقه كاثروود اللذَين قاما برحلة البحث عن آثار حضارة المايا، وذلك قبل أن تأتيها البحوث العلمية عن الآثار.

المغامر والكاتب جون لويد ستيفنس Jon Lioyd Stephens من مواليد ولاية نيوجيرسي الأمريكية ودرس المحاماة في جامعة كولومبيا لكنه بعد إنهاء دراسته فضل السفر والسياسة عن العمل كمحامي، وكانت رحلته إلى مدينة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا هي أول رحلة له كمغامر ومحب للإستكشاف.

بعد ذلك ذهب إلى بولندا وروسيا وأيضا سافر إلى مصر والقدس ومدينة البتراء الأثرية ومنها أصبح شغوفاً بالحضارات القديمة، وبدأ بعد ذلك رحلته مع الكتابة بعد أن كان يقص في رسائل لعائلته عن تفاصيل تلك الرحلات، وتم نشر بعض من رسائله في صحف نيويورك ونالت استحسان لدى الناس، وله كتاب "حوادث في السفر " عن مصر وكتاب آخر عن بولندا وتركيا.

المغامر والفنان فريدريك كاثيروود Frederick Cathewrood كان يمتلك موهبة فنية في الرسم ومهندساً معمارياً وايضاً يحب السفر والترحال، حيث تجول كثيراً في الشرق الأوسط وقام خلالها برسم عدة مناظر أهمها رسم سقف مزخرف لمسجد قبة الصخرة.

في معرض للرسم عام ١٨٣٥ التقى ستيفنس مع كاثيروود في صحبة بعض الأصدقاء ومنذ ذلك الحين اصبحا صديقين حميمين، وأسسا معاً مشروعاً تجارياً، ولكن اكثر شيء كان يجمعهما سوياً هو حبهما للمغامرة والشغف بالحضارات القديمة.

أحداث رحلة البحث عن آثار حضارة المايا

كان كاثيروود يبحث في الصحف ولفت نظره اثنين من المنشورات التي تصف انقاض أشياء غريبة وغامضة في أمريكا الوسطى وحَدَث صديقه ستيفنس بتلك الأخبار.

اتفق الصديقان على القيام برحلة يوماً ما إلى تلك المنطقة وفحصها والتحقق منها، وبعد أن توفر لديهم أرباح من عملهما التجاري والمعمار والكتابة أصبح بمقدورها السفر، وتمكن ستيفنس من الحصول على وظيفة دبلوماسي أمريكي في أمريكا الوسطى عام 1839 م حتى يسهل عليه الدخول إليها.

اكتشاف آثار مدينة كوبان Copan

عام 1840 م تحرك الصديقان من نيويورك إلى مدينة ساحلية صغيرة إسمها بليز ومنها تمكنا من السفر إلى داخل البلاد بوسط أمريكا حيث توجد آثار وبقايا مدينة كوبان في هندوراس.

لم تكن الرحلة سهلة بل كان عليهما أن يشقا طريقهما عبر شبه جزيرة يوكاتان المليئة بالغابات والوحل والبعوض، غير أن الدليل قادما عبر الحقول والغابات إلى ضفة النهر، وهنا لمحا على الجانب الآخر جداراً لإحدى مدن حضارة المايا.

وعلى ظهور الخيل عبر النهر وشقا طريقهما خلال الشجيرات وأثناء سيرتها تأثرا ببعض الحجارة التي كانت منتصبة ومنحوتة بإتقان وقد أُصيبا بالهلع والدهشة حينما شاهدا لأول مرة الآثار المعمارية لحضارة المايا القديمة، فلم يسبق لهما أن رأيا مثل هذا الفن المعماري من قبل.

وبمواصلة السير وجدا نفسيهما وسط مجموعة من المدرجات والأهرامات كما وجدا أمامها عموداً حجرياً مربع الشكل منحوتاً عليه بشكل بارز ومرتفع رسم لأحد الرجال ومكتوب عليه خطوط هيروغليفية غير المتعارف عليها في آثار مصر ومنطقة البحر الأبيض المتوسط.

عثر المغامِرَين على مجمع ملكي كبير يشكل النواة الرئيسية لمدينة كوبان الأثرية مكون من الأهرامات التي يبلغ ارتفاعها أكثر من 30 متراً و التي كانت تغطيها النباتات وتفصل بينها الفناءات والساحات العامة.
كما يحوي قصور متداخلة متدرجة و سلسلة من الأعمدة الفردية المزينة بزخارف ونقوش وتحمل صوراً للحكام، وتصطف هذه الأعمدة بشكل متداخل في الساحة المركزية.

لم يقم ستيفنس و كاثيروود بأي عمليات حفر أو تنقيب بل اعتماد على القياسات والملاحظات الدقيقة من أجل الكشف عن قصة مدينة كوبان الأثرية.

باستخدام البوصلة وشريط القياس تمكن كاثروود و ستيفنس من تحديد موقع المدينة الأثرية القديمة وذلك من خلال تقسيم سطح الغابة على مربعات صغيرة ودراسة كل مربع على حده فكانت هذه أول محاولة لتحديد موقع حضارة المايا.

كانت كوبان تمتد إلى ما يقرب من ثلاثة كيلو مترات وتحوي ثلاث ساحات وأهرامات ومعابد رئيسية، ولم يكن لدى السكان الهنود المحليين أي فكرة عمن قام ببناء كوبان.

استخدم كاثيروود موهبته في الرسم وحسه الفني ومكث فترة من الزمن يرسم اللوحات والنقوش والزخارف على الآثار بشكل متقن وبراعة فذة، وكان ستيفس يرى أن آثار كوبان فريدة وغريبة فكان يتمنى لو استطاع أن ينقل ولو جزء صغير من هذه الأنقاض إلى نيويورك ليقيم بها معرضاً للزوار يدر عليه مالاً.

ولكي يحقق ستيفنس أمنيته اشترى انقاض مدينة كوبان من المالك المحلي بمبلغ 50 دولاراً فقط، لكن في نهاية المطاف وجد أن النهر لم يكن يحتمل المراكب الكبيرة وبالتالي فلم يستطع نقل أي شيء من الآثار.

بعد ثلاثة عشر يوماً من المكوث في كوبان غادر ستيفنس أما كاثيروود فقد بقى فترة أطول حتى يتمكن من رسم كل ما يراه من نقوش الزخارف.

اكتشاف آثار مدينة بالينكي Palenque

في مدينة غواتيمالا سيتي Guatemala التقى الصديقات ستيفنس كاثيروود وترك ستيفنس العمل الدبلوماسي وقررت التحقق من تقارير تشير إلى وجود مدينة ضخمة أخرى من حضارة المايا القديمة تعرف بإسم بالينكي في جنوب المكسيك.

شق الرجلان طريقهما عبر التضاريس الوعرة جداً، وفي النهاية ظهر لهما مدينة بالينكي من الغابة تلك المدينة التي كان يحكمها باكال العظيم Kinich Janab' Pakal من سنة 615 إلى 683 ق.م .

عثر الرجلان على مجمع يضم قصر بالينكي والقصر محاط بعدة ساحات ويبلغ طوله 91 متراً وكانت جدرانه سميكة ومزينة بشكل متقن، كما وجدا معبداً ذو نقوش رائعة وهرم، ولم يتم الكشف عن النصب الجنائزي إلا عام 1952 م بعد عمليات من الحفر والتنقيب تحت الهرم.

أقام ستيفنس وكاثيروود مخيماً في مجمع القصر وبدأ كاثروود يرسم النباتات والنقوش الموجودة على الجدران، أما ستيفنس قام بتنظيف جدران القصر و بناء سلالم بدائية حتى يتمكن كاثروود من رؤية النقوش أثناء الرسم.
آثار حضارة المايا القديمة

وضع الرجلان خطة عمل صارمة للبحث عن الآثار في المدينة في غضون بضعة أسابيع لكن الرطوبة وأسراب الحشرات لم تمكنها من الإلتزام بتلك الخطة، ونظراً للأهمية العلمية للمدينة في اعتقاد ستيفنس حاول شراء أنقاض المدينة مقابل 1500 دولار حتى تدر له ثروة.

عندما علم ستيفنس أنه لكي يتمكن من شراء أنقاض المدينة وإبرام الصفقة فعليه أن يتزوج من امرأة من السكان المحليين لذا تراجع بسرعة وفَرَ الرجلان بحثاً عن مركز آخر لحضارات المايا للبحث فيه عن الآثار وهو مدينة أوشمال الأثرية.

اكتشاف آثار مدينة أوشمال Oshmal

كانت مدينة أوشمال تعد من أروع مراكز حضارة المايا جميعاً واشتهرت أوشمال بأهرامات معبدها ومباني القصر الطويلة، بعد وصول الرجلان لمدينة أوشمال أصيب كاثيروود بمرض خطير كان مصحوباً بالحمى ولم يستطع أن يمضي في هذه المدينة سوى يوماً واحداً فقط فغادرا المدينة على الفور.

في عام 1840 م عاد الرجلان إلى نيويورك وألف ستيفنس كتاباً في أدب الرحلات اسماه " حوادث السفر في أمريكا الوسطى" وصف فيه كل ما رآه في رحلاته وكتبه بإسلوب سردي بسيط.

أشار فيه إلى أن الذين بنوا مُدن كوبان وبالينكي وأوشمال كانوا يمتلكون ثقافة مشتركة وكان فنهم ينافس أرقى أعمال الحضارات المتوسطية، وذكر أن تلك الخرائب هناك قد بناها أسلاف المايا المحليين، وكان الكتاب من أكثر الكتب مبيعاً.

مراكز حضارة المايا
بين عامي 1841 م - 1842 م عاد ستيفنس وكاثيروود إلى أمريكا الوسطى لقضاء وقت أكثر في أوشمال، وفي تلك الفترة كانا يقومان برسم الخرائط واجراء عمليات المسح والرسم وإنشاء سجل دقيق من المعلومات حتى يتمكنا من إنشاء نسخة طبق الأصل له عندما يعدوا إلى نيويورك، وكعادتهما لم يقوما بالتنقيب بل مركزا على التحقق من صحة وجود الموقع وبنايته الرئيسية التي كانت تسمى بدير الكهنة.

استكشاف مراكز أخرى من حضارة المايا

في أوشمال تعرض ستيفنس لنوبات من الحمى وغادر المكان مع كاثيروود إلى أماكن أخرى ومواقع مجاورة تنتمي لحضارة المايا مثل مدينة كابا Capa وسافرا عبر يوكاتان وأمضيا ثمانية عشر يوماً في مدينة تشيتشن إيتزا التي اشتهرت بهرمها الكبير وساحة كبيرة للعب كرة القدم.

في تلك الفترة التقى الرجلان بعلماء محللين وعرفوا منهم معلومات تاريخية قيمة، ثم بعد ذلك قاما بزيارة مدينة كوزوميل وتولوم وهي أماكن قد أشار إليها المستكشفون الأسبان الأوائل.

في حزيران عام 1842 م عاد المستكشفان إلى نيويورك وبعد تسعة أشهر من العودة نشر ستيفنس كتابه " أحداث السفر في يوكاتان " والذي أكد فيه أن اطلال حضارة المايا كانت من صنع السكان المحليين الذين كانوا يعيشون حالة من الإزدهار حتى تعرضهم للغزو الإسباني.

بعد وصول الأسبان في القرن الخامس عشر لغزو مدن المايا تدهورت وانتهت حضارتهم حتى زحفت الغابات على مواقع حضارة المايا القديمة وغطتها، ورغم ذلك فإن الأحفاد الجدد لأولئك الذين بنوا بالينكي وكوبان وأوشمال والمدن الاخرى ما يزالون يحتفظون بالعديد من عناصر ثقافة المايا القديمة بما في ذلك الطقوس الدينية.

انتهت مغامرة الرجلين وعاد كلاهما من أمريكا الوسطى بعد أن تمكن منهما مرض الملاريا، وفي عام 1852 م توفي ستيفنس في نيويورك بعد معاناة مع الحمى المدارية، ومات كاثيروود بعده بعامين في حادث تصادم في البحر قبالة نيوفاوندلاند.

بعد أربعون عاماً من رحيلهم بدأت الأنظار تتجه مرة أخرى إلى الكشف عن حضارة المايا ولكن تلك المرة كان البحث يقوم على أسس علمية فى المواقع عن طريق الحفر والتنقيب واستخدام وسائل أحدث.

خاتمة
رحلة ومغامرة البحث عن آثار حضارة المايا هي مقالة كتبتها لكل محب لعلم الآثار وكل شغوف بمعرفة معلومات عن الحضارات القديمة وقد تناولت فيها تلك المغامرات التي قام بها كلا من كاثيروود و ستيفنس للبحث عن آثار حضارة المايا، حيث عرضنا لمراحل الرحلة إلى كوبان وبالينكي وأوشمال وغيرها من مدن ومراكز حضارة المايا.

مصادر
تم تجميع مادة المقالة من كتاب مختصر تاريخ الأركيولوجيا

رحاب يعقوب عباده
رحاب يعقوب عباده
تعليقات